فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (46):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [46].
{وَقَفَّيْنَا} أي: أتبعنا: {عَلَى آثَارِهِمْ} يعني أنبياء بني إسرائيل: {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي: أرسلناه عقبهم: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي: مؤمناً بها حاكماً بما فيها: {وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً} أي: إلى الحق: {وَنُورٌ} أي: بيان للأحكام: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي: لما فيها من الأحكام. وتكرير ذلك لزيادة التقرير.
قال ابن كثير: أي: متبعاً لها غير مخالف لما فيها، إلا في القليل. مما بيِّن لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخباراً عن المسيح. أن قال لبني إسرائيل: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}. ولهذا كان المشهور من قول العلماء: إن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة.: {وَهُدىً وَمَوْعِظَةً} أي: زاجر عن ارتكاب المحارم والمآثم: {لِلْمُتَّقِينَ} أي: لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه. وتخصيص كونه هدى وموعظة بالمتقين، لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (47):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [47].
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} أمر مبتدأ لهم، بأن يحكموا ويعلموا بما فيه من الأمور التي من جملتها: دلائل رسالته عليه الصلاة والسلام، وشواهد نبوّته. وقيل: هو حكاية للأمر الوارد عليهم. بتقدير فعلٍ مَعْطوف على {ءَاتَيْنَاهْ}: وقلنا ليحكم أهل الإنجيل. وقرئ {وليحكم} بالنصب على أن اللام لام كي أي: آتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم.
قال بعض المحققين: وإنما خص أهل الإنجيل بالذكر، لبيان أن الإنجيل لم ينزله الله للأمم كافة وأن شريعته ليست باقية لكل زمان. لأن بعثة عيسى عليه السلام كانت خاصة بالأمة اليهودية.
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، التاركون للحق.
تنبيه:
في هذه الآية والآيتين المتقدمتين، من الوعيد ما لا يقادر قدره. وقد تقدم أنّ هذه الآيات، وإن نزلت في أهل الكتاب، فليست مختصة بهم، بل هي عامة لكل من لم يحكم بما أنزل الله، اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويدخل فيه السبب دخولاً أوليًّا.
وفي فتح البيان في تفسير هذه الآيات، مباحث نادرة سابغة الذيل. فلتراجع.
ولما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، وأثنى عليها وأمر باتباعها، ثم ذكر الإنجيل ومدحه وأمر باتباعه- شرع في التنويه بالقرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، فقال:

.تفسير الآية رقم (48):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [48].
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} أي: الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتاباً على الإطلاق. لحيازته جميع الأوصاف الكمالية لجنس الكتاب السماويّ، وتفوّقه على بقية أفراده، وهو القرآن الكريم. فاللام للعهد. أفاده أبو السعود.
{بِالْحَقِّ} أي: الصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} بيان لـ: {ما}. و{اللام} للجنس. يعني: أنه يصدّق جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه من قلبه. وإنما قيل {لما قَبْلَ الشيء}: هو بين يديه، لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه. فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} أي: مؤتمناً عليه وشهيداً وحاكماً على ما قبله من الكتب.
قال ابن جريج: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منا فهو حقّ، وما خالفه منها فهو باطل.
{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} أي: بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك: {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي: بما بيّن الله لك في القرآن.
قال في الإكليل: هذا ناسخ للحكم بكل شرع سابق. ففيه أنّ أهل الذمة إذا ترافعوا إلينا يحكم بينهم بأحكام الإسلام. لا بمعتقدهم. ومن صور ذلك عدم ضمان الخمر ونحوه. انتهى.
{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} نهى أن يحكم بما حرفوه أو بدَّلوه. اعتماداً على قولهم. ضمن: {وَلاَ تَتَّبِعْ} معنى {ولا تنحرف} فلذا عدي بـ عن فكأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم. أو التقدير: عادلاً عمّا جاءك {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} أي: شريعة موصلة إلى الله: {وَمِنْهَاجاً} أي: طريقاً واضحاً في الدين، تجرون عليه. قال ابن كثير: هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد. كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات. ديننا واحد». يعني بذلك، التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله. كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وقال أبو السعود: قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} كلام مستأنف جيء به لحمل أهل الكتابين، من معاصريه صلى الله عليه وسلم، على الانقياد لحكمه بما أنزل إليه من القرآن الكريم. ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره من الكتابين، وإنما الذي كلفوا العمل بهما من مضى قبل نسخهما من الأمم السالفة. والخطاب بطريق التلوين والالتفات للناس قاطبة، لكن لا للموجودين خاصة، بل للماضين أيضاً بطريق التغليب. والمعنى: لكل أمة كائنة منكم. أيها الأمم الباقية والخالية، جعلنا- أي: عَيَّنا ووضعنا- شرعة ومنهاجاً خاصيْن بتلك الأمة. لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التي عيّنت لها. فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى عيسى عليهما السلام شرعتهم التوراة. والتي كانت من مبعث عيسى إلى النبيّ عليهما الصلاة والسلام شرعتهم الإنجيل. وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم القرآن ليس إلاّ. فآمنوا به واعملوا بما فيه.
وفي الإكليل: استدل بهذه الآية من قال: إنَّ شرع من قبلنا ليس بشرع لنا.
وبقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} الآية، من قال: إنه شرع لنا ما لم يردْ ناسخ. واستدلّ بالآية. أيضاً من قال: إن الكفر مللٌ لا ملة واحدة، ولم يورث اليهود من النصارى شيئاً. انتهى.
قال النسفيّ: ذكر الله إنزال التوراة على موسى عليه السلام. ثم إنزال الإنجيل على عيسى عليه السلام. ثم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وبين أنه ليس للسماع فحسب، بل للحكم به. فقال في الأول: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} وفي الثاني {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ} وفي الثالث: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ}.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: جماعة متفقة على شريعة واحدة: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} متعلق بمحذوف يستدعيه النظام. أي: ولكن جعلكم أمماً مختلفة ليختبركم فيما أعطاكم فيما أعطاكم من الشرائع المختلفة. هل تتركون ما ألفتم منها لِمَا أحدث منها مذعنين له، معتقدين أن خلافه لها بمقتضى المشيئة الإلهية المبنية على أساس الحكم البالغة، والمصالح النافعة لكم في المعاش والمعاد؟ أو تزيغون عن الحق، وتتبعون الهوى، وتستبدلون المضرة بالجدوى، وتشترون الضلالة بالهدى؟ وبهذا أتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء. بل العمدة في ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشاً ومعاداً، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أي: إذا كان الأمر كما ذكر، فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقة، والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم، وابتدروها انتهازاً للفرصة وإحرازاً لسابقة الفضل والتقدم. ففيه من تأكيد الترغيب في الإذعان للحق، وتشديد التحذير عن الزيغ، ما لا يخفى. أفاده أبو السعود.
وقوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد. أي: مصيركم، ومعادكم- أيها الناس- إليه يوم القيامة: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي: فيخبركم بما لا تشكّون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم، وعاملكم ومفرّطكم في العمل. كذا في الكشاف.
فالإنباء مجاز عن المجازاة، وإنما عبر عنها به، لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الإنباء.

.تفسير الآية رقم (49):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [49].
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} عطف على {الكتاب} أي: أنزلنا إليك الكتاب والحكم بما فيه. أو على الحق أي: أنزلناه بالحق وب- {أن احكم} ويجوز أن يكون جملة، بتقدير: وأمرنا أن احكم. وفي التعرض لعنوان إنزاله تعلى إياه، تأكيد لوجوب الامتثال، وتمهيد لما يعقبه من قوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي: يصرفوك عنه. وإظهار الاسم الجليل لتأكيد الأمر بتهويل الخطب. كإعادة ما أنزل الله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: عن الحكم المنزل وأرادوا غيره: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} يعني بذنب التولّي عن حكم الله، وإرادة خلافه، فوضع {ببعض ذنوبهم} موضع ذلك. وأراد: أن لهم ذنوبة جمة كثيرة العدد. وأن هذا الذنب- مع عظمة- بعضُها وواحد منها.. وهذا الإبهام لتعظيم التولي، واستسرافهم في ارتكابه، ونحو البعض في هذا الكلام ما في قول لَبِيد:
أو يرتبطْ بَعْضَ النفوسِ حِمَامُهَا

أراد نفسه. وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام. كأنه قال: نفساً كبيرة ونفساً أي: نفس. فكما أن التنكير يعطي معنى التكبير وهو معنى البعضية، فكذلك إذا صرح بالبعض. كذا في الكشاف.
وفي الحواشي: ومثل هذا قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]. أراد محمداً صلى الله عليه وسلم، وقيل: ذلك من الخصوص الذي أريد به العموم، وقيل: أراد العذاب في الدنيا. وأما في الآخرة فإنه يعذب بجميع الذنوب. ولقد تلطف القائل:
وأقول بعض الناس عنك كنايةً ** خوفَ الوشاة وأنت كلُّ الناس

{وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} أي: المتمردون في الكفر معتقدون فيه، وهذا تسجيل عليهم بالمخالفة. يعني: إن التوليّ عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر. والجملة اعتراض تذييليّ مقرر لمضمون ما قبله. ونظيرها قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]. وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116].
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صلوما، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس، بعضُهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد! إنك قد عرفت أنّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم. وأنا- إن اتبعناك- اتبعنا يهودُ، ولم يخالفونا. وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك. فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عزّ وجلَّ فيهم: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} الآية.

.تفسير الآية رقم (50):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [50].
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أي: يريدون منك.
قال أبو السعود: إنكار وتعجب من حالهم وتوبيخ لهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام. أي: أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية. وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكد الإنكار والتعجيب. لأن التوليّ عن حكمه صلى الله عليه وسلم. وطلب حكم آخر، منكر عجيب. وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب. والمراد بـ: {الجاهلية} إمّا الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى، الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام فيكون تعبيراً لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم، يبغون حكم الجاهلية التي هي هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحي. وإما أهل الجاهلية، وحكمهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى. انتهى.
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} أي: قضاء: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي: ينظرون بنظر اليقين إلى العواقب. والاستفهام إنكار لأن يكون أحدٌ حكمُه أحسنَ من حكمه تعالى أو مساوياً له.
قال ابن كثير: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم- المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شرّ- وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتارُ مِنَ السياسات الملكية المأخوذة عن جنكزخان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهود والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها. وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن فعل ذلك منهم فهو. كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله. فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير. قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون،: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن، وعلم أن الله تعالى أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها؟ فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء. روى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية. وكان طاوس إذا سأله رجل: أفضل بين ولدي في النحل؟ قرأ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ} الآية. وروى الطبرانيّ: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبغض الناس إلى الله عزَّ وجل من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرئ بغير حقٍ ليريق دمه». ورواه البخاري بزيادة. انتهى. كلام ابن كثير.
قال بعض مفسري الزيدية. اشتمل قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} إلى قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} على عشرين وجهاً من التأكيد في ملازمة شريعة نبيّنا صلى الله عليه وسلم التي أنزلنا الله تعالى، واختاره لأمته، واستأثر بكثير من أسرارها فلم يُطَّلَع عليها، وما أشدَّ امتثال ما تضمّنته؟ وكيف الخروج عن عهدته خصوصاً على الأئمة والحكام؟ ولن يحصل ذلك حتى يلوم نفسه بلجام الحق، ويعزل عن نفسه مطالعة الخلق، لهذه الجملة. لا يقال: إنه صلى الله عليه وسلم معصوم لا يتبع أهواءهم، فكيف نهى عما يعلم الله أنه لا يفعله؟ قال الحاكم: ذلك مقدور له، فيصحّ النهي وإن علم أنه لا يفعله. وقيل: الخطاب له والمراد غيره. كذلك لا يقال: قوله: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} يخرج من ذلك القياس. لأن ذلك- إن جعل خطاباً له عليه الصلاة والسلام- فلم يكن متعبّداً بالقياس. وإن كان خطاباً للكل فالقياس ثابت بالدليل فهو بمثابة المنزل. هكذا ذكر الحاكم. والأكثر: أنه يجوز منه عليه الصلاة والسلام الاجتهاد، ومنعه آخرون. وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} قد يستدل به على أن الواجبات على الفوز. وهو محتمل. لأن المراد قبل أن يسبق عليكم الموت. انتهى.
وفي الإكليل: استدل به على أن تقديم العبادات أول وقتها أفضل من تأخيرها. انتهى.
وقد روى مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبرّ الوالدين».
وروى أبو داود والترمذي والحاكم عن أم فروة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها».